الطريق مكتظة بالوحل ، فليل أمس لم يهدأ المطر ، رافقه عزف منفرد من الرعد على أنغام الموسيقى المنبعثة من غرفة نوم أبي ، من هناك انبعثت أصوات وصرخات لم أسمعها من قبل ، حاولت الاقتراب من ثقب في باب الغرفة فنهرني أخي الأكبر ( عيب يا ولد ... عيب ... ارجع إلى غرفتك ) ، مازالت هذه العبارة تأخذني إلى مجهول ما ، لما نهرني بهذه الطريقة !!! ...
أودعت أفكاري في زقاق الدار ، طويت دفتري المدرسي القديم ، لسعة برد تأتي على عجل ، امتطيت عصا غليظة علها تساعدني بالتغلب على وحل لم أعتد مقارعته كثيرا ، وها أنا ألثم أول الطريق إلى شجرة الجوز ، نعم لقد حداني شوق لها ، فمنذ أكثر من شهر لم أرها ، وهي أيضا لم تراني ...
قفزت إلى ذاكرتي قصة قديمة ، رواها لنا المعلم في الصف الثاني ، كانت تحكي عن طفل ضربته زوجة أبيه ذات الوجه القبيح ، وكان يومها الوحل كما هو اليوم ، لكن المعلم قال بأن البرد كان شديدا جدا ، خرج الطفل من المنزل ، لم يكن أبيه هناك ، انتظره على صخرة تبعد نحو مئة متر عن البيت كي يخبره بفعلة خالته ، وكي يجرؤ على العودة إلى البيت ... لكن الطفل بقي هناك فترة طويلة حيث تأخر أباه بالعودة ...
لست أدري لما أتتني هذه الحكاية الآن ، لكنها تركت جرحا عميقا ك واد سحيق في ذاكرتي ، حاولت انتشال نفسي من هذه القصة العاصفة ، لكنها أبت أن تتركني كي أكمل طريقي إلى مكان موعدي الذي مازال جاثما تحت ظل شجرة الجوز .
انتصرت على الوحل ، فساورني شيء من الفرح ، قدماي الخفيفتان تخترقانه دونما خوف أو أي تعثر ، أحيانا يختفي ك البرق وتحل مكانه برك الماء ، لكنه لا يلبث أن يعود لمحاربة قدمي من جديد .
( إلى أين أنت ذاهب يا صديقي ) ، فاجئني الصوت الآتي من خلفي ، إنه نذير ، رفيقي في المدرسة الإبتدائية ، كان شابا في عمري ، أسمر اللون ، كث الشعر ، جميل الوجه ، ولعل أهم ما يميزه تلك الدعابات التي يطلقها بين الفينة والأخرى .
لقد ارتبكت كثيرا ، فكرت بسرعة في الجواب ، تعطلت كافة عجلات رأسي فجأة ، فأصبحت مجردا من أسلحتي أمامه ( آه منك ... لابد أنك ذاهب للقاء غادة ) ... ضحك هو وضحكت معه ، كيف عرف هذا الملعون ، نظرت إليه فبدا وجهه أكثر جمالا مما عهدته ( لم تغير عادتك فأنت تحب البنات ) ... قالها ثم طبع قبلة على جبيني وغادر .
انتهى الطريق دون أن أشعر ، شجرة الجوز ترحب بي ، اومأت لي صوب ثلة من الأعشاب بالقرب منها ، هناك كانت تجلس فتاة ترتدي ثوبا أسود اللون ، دنوت منها لعلي أكتشف أمرا ما ، حاولت محادثتها لكنها لم تجبني ، مدت إلي يدها بورقة صغيرة ، وقفت مسرعة ثم توارت خلف الأشجار ...
بقيت أنا وشجرة الجوز والورقة ننظر إلى بعضنا البعض بشيء من الدهشة : ( غادة لن تعود قبل ثلاثة أشهر ) ... أصابني شيء من الفزع ، صمت قليلا قبل أن التجأ إلى شجرتي ، لففتها بذراعي تاركا فسحة لدموعي كي تندمج مع مطر ليل أمس .
-----------
وليد.ع.العايش
٢٨ / ٣ / ٢٠٢٠ م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق