30/03/2020

الشاعر توفيق ركضان القنيطري

قصة قصيرة /
                                   (فدوى الحب الأول)

كعادتي كلما أطلت السهر ليلا استيقظ متأخرا وأذهب للمقهى التي أرتادها كل صباح..انزوي في ركني المعتاد امسك بسيجارتي الأولى في انتظار قهوتي السوداء معشوقتي الصباحية..اول رشفة كأول قبلة لذيذة لكنها غير مثيرة وأما الثانية فتجعل فكري يشرد وعيني تراقب دخان سيجارتي وأتذكر مغامرة الليلة السابقة عندما التقيت فدوى حبيبتي القديمة..
كنت أحرص على أناقتي كالعادة كلما توجهت للفندق المصنف بالمدينة تستقبلني إبتسامة النادل و كلماته اللطيفة: مرحبا أستاذ تفضل طاولتك معدة وعليها باقة الورد المفضلة لديك.. شكرا سي سعيد على لطفك وأمنحه ورقة مائة درهما على حجز الطاولة قبالة المسبح وعلى الورد..أبدأ رحلة الظمأ بنبيذ أحمر وأدرك أن زمن الارتواء سيطول خصوصا وأن الوقت مازال عصرا واشعة الشمس تنعكس على ماء المسبح فتضفي بهاءا على المكان مع عناقيد العنب الدانية من سقيفة تظلل بهو المكان..كؤوس تنافس بعضها وسجائر تتسابق على عتبات الفناء ووصلات غنائية تتوالى كل واحدة بذكرى تتراقص أطياف رفيقات السهر ومعها مسلسل الذكريات الذي يتوقف مع فراغ الزجاجة الأولى..التفت لأنادي النادل وإذا بالطاولات قد امتلأت وغص المكان بالزبائن واختفت أشعة الشمس وحل ظلام خفيف مع نسائم صيفية رقيقة..أين أنت ياسعيد؟! أين النبيذ؟
 وإذا بسعيد يقف مع شابة جميلة ملامحها تطل من ذاكرتي وتختفي أشرت له بأن اقترب فلما دنا مني نسيت أمر النبيذ وسألته عنها من تكون لم أعتد رؤيتها بالمكان ؟ قال:هي زبونة جديدة وتسأل عن أجواء العمل وتفاصيله قلت له إذا سمحت سي سعيد اخبرها أنني أدعوها لمائدتي ولاتنسى النبيذ فقد فرغت الزجاجة..بعد برهة جاءني بالنبيذ وأخبرني عن إعتذار الشابة بغضب فأدركت خطأ أسلوب الدعوة وقررت أن أدعوها بنفسي أخذت وردة حمراء من الباقة واقتربت منها وقلت: مساء النور سيدتي هل تقبلين مني هذه الوردة كعربون على إعجابي بك وتشرفيني بالانضمام إلى مائدتي..ابتسمت وظهرت شقوق الجمال على خديها وذقنها فتراجعت للوراء مذهولا !! هذه الإبتسامة وهذا البهاء أعرفه وقبل أن ترد على دعوتي قلت لها :ألست فدوى زميلة الدراسة؟! اندهشت هي الأخرى وقالت نعم لكن من أنت؟! أمسكت بيدها وقلت لها تعالي واجلسي رفقتي وسأذكرك بحكايتي معك 

في الثمانينات بمدينة القنيطرة كنا ندرس معا بإعدادية عقبة.. وكنت أنت أجمل فتاة تجتمع حولك شلة أولاد وبنات حتى بعض الأساتذة كانوا من معجبيك..وطبعا كنت أنا أشدهم اعجابا وحبا لك لكن كان من الصعب الوصول إليك لأنك نادرا ماتكونين وحيدة حتى انفرد بك واعبر لك عن مشاعري..
وبعد تفكير وتخطيط قررت أن اتبعك لأعرف بيتك واستغل المسافة بينه وبين المدرسة لأفاتحك في الموضوع..وعند منتصف الطريق اعترضك ثلاثة شبان أحدهم كان يحمل سكينا أمسكوك من ثيابك بقوة وارادوا استدراجك إلى مكان مظلم مهجور..لم أفكر أبدا بالعواقب تدخلت بشراسة وانتزعتك من بينهم ووضعتك خلف ظهري وقلت لك اهربي يا فدوى اهربي وفعلا سابقت الريح والدموع في عينيك رعبا من الموقف وخوفا على مصيري من هؤلاء المجرمين..كيف أصف لك سعادتي وفخري بانقاذك وخوفي من التعرض لضربة سكين قد تشوه وجهي وتقضي على مستقبلي..مزيج من الأحاسيس والصور مرت أمام عيني مرور البرق..لم أدري كيف ألهمني الله أن انحني وامسك حفنة تراب والقيها في وجه حامل السكين ولا كيف تنصلت من احدهم ولذت بالفرار في نفس اتجاه بيتكم..
تبعوني بسرعة وهم يصرخون ستموت اليوم لأنك اهنتنا ستموت..من خوفي سابقت الريح إلى أن وجدت أمامي سياجا شائكا لمحل نجارة فأمسكت بيدي الأسلاك الشائكة وارتميت أمام النجار الذي تفاجأ بماحدث وقلت له وأنفاسي تكاد تتوقف يريدون الاعتداء علي.. فحمل مطرقة كبيرة واستدعى معاونيه وهددوا هؤلاء المجرمين فتراجعوا وهم يصرخون بغضب : لن تفلت منا لا أنت ولا هي..
حمدت الله على نجاتي وأخبرت النجار بما حدث فقال لي :انت شجاع أنت رجل حقيقي..وبينما كنت أهم بالذهاب جئت أنت ووالديك واخوك تشكرونني على صنيعي..لن أنسى ابدا حنان أمك وهي تمسح الدماء من يدي وتدعوني لشرب كأس ليمون بارد حتى تهدأ اعصابي..لن أنسى نظرات الإعجاب والامتنان من أسرتك ولا ترحيبهم بزيارتي لكم في أي وقت كابن لهم...

 في الغد بالمدرسة وقت الاستراحة كنت أراك تسألين عني وكنت اختبئ لست أدري لما ؟! ربما لأنني لا أحب أن استغل -عملا إنسانيا قمت به عن تربية وقناعة - في التأثير عليك لتبادليني الحب..لكنك كنت شجاعة ومصرة وانتظرت دخولي للقسم وطلبت الإذن من أستاذي لتكلميني ولما خرجت قلت لي: انتظرني عند الخروج لأمر ضروري فوافقت وكنت في غاية السعادة واللهفة لذلك اللقاء..
لم أدر كيف مرت تلك الحصة ولاماذا شرح الأستاذ ؟ كان جسدي بالقسم وروحي هناك حيث أنت.. أتساءل بحيرة كيف سيكون اللقاء وماذا سأقول؟!!! 
وما كاد جرس الخروج يرن حتى وجدت القمر واقفا أمامي.. كنت رائعة الجمال.. على شفتيك ارتسمت إبتسامة مشرقة تلخص كل معاني الحب والفرح والشوق واللهفة.. امسكتني من يدي وقلت لي : من اليوم انت صديقي الحميم ستوصلني كل يوم إلى البيت وسنلتقي في الاستراحات وسأكون رفيقتك..وبدأت قصة حبي الأول.. كنت كلما قبلتك تملكني إحساس أنني أسعد إنسان في الكون وكنت كلما أمسكت يدي ونظرت الي بحب أحسست بالزهو والفخر خصوصا وأن المدرسة كلها علمت بأنني المحظوظ الذي فاز بقلبك..

أتذكر عندما كنا متكئين على سور المدرسة قبل الدخول لحصص المساء ورأسك على كتفي وذراعك تضمني وخصلات شعرك الذهبي تلامس وجهي كنا كعصفورين عاشقين خلقا لبعض..وصادف مرور أستاذي لمادة التربية البدنية الذي ناداني وقال لي :انتبه لدراستك هذه العلاقة قد تدمر مستقبلك.. لكنني أخبرته بكل جرأة أنها ستكون حافزي للنجاح والأيام بيننا..
انتهى الموسم الدراسي ونجحنا وحانت لحظة الفراق مزيج من المشاعر حب ولوعة وخوف ودموع ووعود بالوفاء..هل تذكرين عندما قلت لك أنني سأخلد ذكرى حبك بأن أجعل الحرف الأول من اسمك (الفاء ) جزءا من توقيعي؟! لقد وفيت بوعدي..وبعد مرور ثلاثين سنة مازالت ذكرى حبك تسكنني ومازال توقيعي مزين بأحب حرف إلى قلبي..سألتها: هل تتذكرين إسمي ؟ قالت ضاحكة : رغم تأثير الزمن وتغير شكلك واللحية فانت توفيق حبي الأول كيف أنساك؟ 
 أنقذت حياتي وسقيتني زلال العشق وانا فتاة صغيرة..أنا مسرورة لأنني التقيتك بعد هذا العمر لكنني حزينة للمكان والظروف..قلت لها : لاعليك دعينا نستمتع بهذا اللقاء ونشرب نخب الحب القديم تناولنا العشاء ورقصنا وضحكنا كما لم نضحك من قبل وتبادلنا القبل حتى تأججت رغباتنا..
فقالت: أنت ضيفي فأنا أعيش وحيدة.. وافقت على الفور ودعوتها للإفطار فرفضت وأخبرتني أن نذهب للبيت و ننهي مابدأناه حتى نؤرخ لهذا اللقاء الجميل وحتى أعرف المكان الذي تعيش فيه وفعلا أشعلنا حرائق استمر لهيبها للظهر واكتفينا بقطعة حلوى وعصير برتقال ونمنا متعانقين حتى المساء..
استيقظت قبلها على عجل وتركت لها ورقة عليها رقم هاتفي..لا زلت أنتظر اتصالها فهل تراها تتصل؟!

توفيق ركضان القنيطري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

. بقلـــــ♥ــــــم الشاعر غازي أحمد خلف

الشاعر شعبي مطفى

يا ساقي كأس ألصبر أسكب وأملأ ولا تسولني ولا دًق باب محاني ولا تعرف مناش أنعاني ساكن وحدي مانعرف جيراني ومن أحلامي مهاجر مكاني نفكًر ألهمً إل...