احتجب عليه كل جميل، اللهم فسحة فضاء تكاد تختنق من خلال ثقب، وفرجة موقوفة عبر جنبات الساحة، من خلالها يلمس في نفسه، أنه مازال حيا يُرْزَق.
كان كلما ضاق درعا بالمكان وأهل المكان، يتسلق بحذر إلى سريره العلوي، ينتصب واقفا قرب الشرفة، يشبك بالقضبان، يسترق النظر، إلى حيث الفضاء الفسيح، إلى حيث الحرية، ويهيم نشوان هنا وهناك، علّه وللحظة، ينسى او بالاحرى يتناسى ماهو عليه.
خفض بصره وبالصدفة، تفَقّد عُشّ الحمام، فاسترعى انتباهه طول غيبة الذكر والحضور الدائم للانثى، حاضنة لبيضها، لا تبرحه أبدا، وبين الفينة والأخرى، تتطلع إلى السماء وكأنها تتدرع أملاً، ان تسع بذكرها.
حزّ في نفسه حالها، درّ فتاتا من الخبز أرضا، ومن غير العادة لم تحرك ساكنا، وظلت قابعة، وكأنها عافت كل شيء.
فحتى بالأمس القريب، وبأرضية الساحة وبرُفقة ذَكَرِها، كانت تختال بحذر غير بعيدة عن ارجل النزلاء، وعندما انست امنا وأمانة، وقع الاختيار على شجرة من شجيرات الساحة، باسقة الأغصان، وآرفة الظلال، كثيفة الأوراق، وعلى غصن ثلاثي الأبعاد، خِيط و حِيك العش بانتظام، حتى غدا آية في الإتقان.
وفي لحظة حلّ المخاض، فزقزق الذكر إشفاقا على أُنثاه، فكان المبيض فالحضانة.
وذات صباح، استفاق على نبرة صوت، لم يخطئ في التعرف على صاحبه. سعد ايما سعادة، أسرع إلى الشرفة، إنه الذكر وقد عاد سالما إلى أُنثاه، ساعتها تمنى لوكان له جناح الطير، ليشاركهما فرحتهما.
لم تبرح الانتى بيضها، لكن الفرحة كانت بادية، على حركاتها وسكناتها، من خلال رفرفة جناحيها ومناقرة منقاره، وفي المقابل، كان الذكر يبادلها بالمثل، يحوم حولها باسطا جناحيه؛إنها حرارة اللقاء، إنها لغة لا نفهمها نحن بني البشر.
لحظات، هدأت ساكنتها وهدات ساكنته، تخلت له عن الحضانة، تفقد البيض ثم احتضنه، ومضت هي ترفرف طائرة، معانقة هذا الفضاء الفسيح حتى ثوارت عن الأنظار.
انسلخت الكتاكيت عن قشرتها، وبدت أعناقها تتطاول، تتجاوز كوم القش، إلى حيث بابا...ماما، الى حيث ما يجلباه من قوت.
لم يدَّخِر الأبوان جهدا في إطعام صغيرَيْهما، وحتى لما بدت شقاوتهما، لم يبخلا عليهما في ترويدهما عن الطيران إلى أن بلغا اشدهما، فطارا عن العش، وطار الجميع، وترك العش يتيما، مهجورا تحث رحمة الرياح.
إنها أيام، قضاها منقسما على نفسه، بين عش الحمام رقيبا وعش أسرته حالما، انتهت مصادفة.
فكان الرحيل وكان السراح...
تأليف: ذ.عبدالاله ماهل
من المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق