حكايا من سجال بين الذات والقلم .
( السّتارةُ السّوداءُ )
في خيمةٍ ريفيّة جميلة تطلّ على السُفوح التي يلتقي الشّاطئ معها ، نطق القلم بلسانٍ فصيحٍ :
ما بكَ يا صاحبي وأنت ترنُو للصّهباء وهي تغيبُ رويداً بقرصِها الخمريّ خلفَ هَذيْ التلولُ الممتدّةُ نحوَ الأفق.
… لَملِمِ العَزْمَ أيّها القلم !!… تختلجُ في نفسي اليومَ خواطرٌ متناقضةٌ سوف أمْليها عليكَ بعد الغروبِ ، أشياءٌ كثيرةٌ فاضتْ عن مكنوناتِ الرّوح وخباياها ، بين الخيالِ وحقيقتهِ ، والواقع وأحلامِه ...
بدأ سكونُ المساء يطوي جناحيهِ الأسوَدينِ ، والقنديلُ منتصبٌ يخفرُ المكانَ كما تَخْفرُ النجومُ حُدودَ السَماءِ ..
…ردّ القلم بهدوءٍ :
… انتظرْ بنا يا صاحبيْ لوقتِ طلوع الفجرِ الجديد ِ.. ونكتبُ نجواكَ تحت ظلالِ النّور والضياء . .
.. لا .. لا.. أيّها القلمُ العزيزُ ، ما عَهدتُك يوماً على هذهِ الحالُ .. تتحدّثُ وكأنّ أشباحُ المللِ قد بدأت تنالُ من عزِيمتَكَ .
الآن روحي خرجتْ لنُزْهَتها المُعتادة تجوبُ حنايا اللّيل
وعندما يطلعُ الصّباحُ ستعودُ مُتعبَةً إلى مخبأها الذي ألِفَتْهُ وتبقى وحيداً أيّها القلمُ .. فهل ستتركُ الآن حروفي وكلماتي تتهاوى تحت أقدامِ الملهاة ، و تُسدِلُ عيونُ القريحة أجفانَها لتغفوَ من جديدْ ...
...اكتبْ أيها اليرَاع . لأنّي ألِفْتُ الكتابةَ أنيسَةُ الرّوحِ في وحدتِها ، ورفيقةُ العينينِ عندما تشخصُ بصيرةُ الفكر خلف أفُقِها والعصَا التي تتوكّأ عليها النجوى ، عندما تخطو النفسُ من مكان جميلٍ لآخرَ أجملَ منه ...
… حسناً يا صاحبي هاتِ ما عندك ْ.. .
(( اتخذتِ أيّتها البصيرةُ و الفكر الشّفاف ، من رؤى نفسي سِتارةً عمياءَ ، سوداء ْ.. ترينَ كلّ من حولكِ بلون قاتم وأنت في مكانك العالي ....))
توقّف القلم فجأة عن الكتابة ، وعاد للخلف متكأ على مقعده قائلا بصوت لم أعتدْهُ من قبل :
أراك فيم تفكر يائساً ، متشائماً يا صاحبي .أليس الأجدى أن تنتقل لمكان آخر أكثر علوّاً وجمالاً ، لربما ترى ألواناً شتّى ناصعةً متنوعةً لمن حولكَ ، أَوليْسَتْ كلّ الألوان وليدةُ الأبيضَ ؟؟
… أجلْ أيها اليراع .. ماتقوله صحيحاً . أصل الألوان أبيضُها . وأنت هل اعتدتَ أن يكونَ مِدادُك أبيضاً ؟
.. في أودية اللامبالاة تتدحرج خلف بعضها صور الأحلام و الأماني التي رسمتُها لتصل بي إلى مستنقع المدنيَّة الفارهةِ الذي يجمع مفرزاتٌ لا أجد لها حاجةً أو نفعاً في عالمي الذي بنيتُ صرحه في نفسي ..
قال القلم :
ما رأيك انت أيها القنديل العجوز فيمَ يقول ثالثنا ؟..
أجاب القنديل :
تعلّمت من جدّي موقدُ الحطبِ هذه الحكمة :
( نحنُ أبناءَ المواقدِ العتيقةِ نحرقُ أنفُسَنا ، فلا يكون منا إلاّ النّار و النّور ... )
قال القلم : إلامَ ترمي من قولكَ هذا أيّها القنديلُ ؟
دخلَ الثّلاثةُ في جدالٍ طويلٍ انتهى بفوزِ القنديل لأنه كان أصلبُ رأياً وحجّة ، وأرّق قولاً .
سادَ صمتٌ قصيرٌ قطعه القلمُ قائلا :
أيّها الصّاحب هاتِ لنا أشياءً أجملَ لأكتُبها . . .
حسَناً ، اكتُبْ يا صديقي : ( سُقِيَتْ روحي زُلالَ الحياةِ الصّافي ، فأبتِ السنونُ إلاّ أن تكسِرَ كأسي حصى الليالي الحالكاتِ .. وشَممْتُ وردةَ المحّبة الجميلةِ فلسَعَتْ روحيَ رائحةُ القَباحةِ .. جلستُ على الشّاطئ أنظمُ ما تيّسر لي من القوافي ، فلمحتُ حوريّة البحر تتخفّى تحت رمالهِ الذهبيّة ، ولما أنشدتُ صدرَ قصيدتي …
مهلا بحالي أيّتها الغواني
ترفّقْنَ بروحي من صَبّ شجَاني
...انتفضتْ تلك الحوريّة يفطّيها زبدُ البحر وقالت :
هل ستجلد روحك على ماتعمّدتَ فعلهُ بيديكَ .. ؟
تعال معي وتخيّر من الحواري ما تشاءُ وتقطِفْ لآلىءً جميلةً ، لم ترَها عين ْ... )
أشحتُ بنظري عنها ، سرتُ مبتعداً نحو َصومعةِ ذاتي الهرمة ، متوجها إلى موقد حطبها لأرى تلك الحكمة التي قالها ..النار والنور .
نضبَ زيتُ قنديلي ، وجفّ مدادُ قلمي ..
… عادتْ ذاتي من نزهَتِها ، مع أوّل الفجرِ وبدّد النسِيمُ الرّقيقُ ، صوتَ القبّرات الجميلْ. ..
نضال محمود … .... 26… 5… .2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق