الاسير الكاتب كميل ابو حنيش يكتب قصيدة رثاء جدته في السنوية الاولى لرحيلها
**في رثاءِ الجدة عريفه**
""نيسانُ عادَ و لم تعودي""
قبلَ عامٍ كانَ قدْ أرخى الظلامُ سدولَهُ
في مقلَتَيّ و نحنُ في عزِ النهارِ
تأتي إليكِ بشارةُ الموتِ المهيبةِ
في انسيابتها الجليلةِ
لا سبيلَ لديكِ
إلا الإنزواءُ و لو قليلاً
كي تخفِّفَ وقعها
فالموتُ موتٌ هو اسمهُ
منذُ البدايةِ و النهايةِ
لا يطرِقُ الأبوابَ يأتي هكذا
من دونِ إذنٍ أو حياءٍ أو رجاء
تصغي لصوتِ هسيسهِ
و يعضُّ قلبكِ يضرمُ النيرانَ
في أحشاءِ صدركِ ثم يمضي
تاركاً من خلفهِ هذا الرماد
لا شيء بينَ يديكِ يُنبِتُ
بعض أزهارٍ لتنمو
غير أشعارٍ تطيرُ
كغيمةٍ محمولةٍ فوق الرياحِ
هل يقرأونُ الشعرَ للموتى
أم الموتى قوافي في القصائدِ
و كيفَ يبدو الموتُ في تلكَ النواحي
و هل استرحتِ الآن من بعد العناءِ
و لِما سئمتِ الانتظارَ
وأنتِ قارئةُ الفصولِ
وأنتِ قارئةُ النجومِ
وأنتِ قارئةُ الجهاتِ
***
الوقتُ فجرٌ فانهضي
القمحُ ينتظرُ الحصادَ
و موسمُ الزيتونِ يسألُ :
من يجيءُ إلى القطافِ؟
و الوقتُ يسألُ :
من يزاولُ مهنةَ الخَبزِ العتيقةِ
من سينثرُ للحمامِ القمحَ ؟
و من يصلي للغمامِ ؟
ألم تقولي أن هذا العمرَ أخضرٌ
فلِما مضيتِ إذا
و لم تكملي بعدُ
قصةَ خرافةِ الدنيا
التي تقضي شريعتها علينا بالشقاءِ
لنرتوي بخِتامها بالموتِ
لم تكملي فصلَ الخرافةِ
في نهايتها السعيدةِ
لم تقولي :
كلنا أبناءُ هذي
نحيا نلهثُ باحثينَ عنِ السعادةِ و الحنينِ
إلى بداياتِ الزمانِ لنعودَ يوماً متعبينَ
إلى الترابِ و قد تساءل:
أين كنتم ؟ لا نجيبُ
لأننا لا نملكُ اللغةَ القديمةَ للترابِ و لونهِ
مع أننا كنا تراباً
و كلنا نغدوا تراباً
و لا سبيلَ سوى النهايةِ والسُباتِ
***
و الله يكتُبَنا حروفاً كي نفتشَ عن لغاتٍ في الوجودِ
و عن دروبٍ غير خاتمةِ الترابِ
و ننسجُ القصصَ الطويلةَ
عن خرافةِ كل شعبٍ في الزمانِ و في المكانِ
و كل قومٍ يُبرزونَ وثيقةً في الانتماءِ إلى السماءِ
ليملكوا هذا الترابَ
و يكتبوا سفرَ البدايةِ في الحكايةِ
" و لشعبهِ المختارَ قد كتبَ الوصيةَ في القداسةِ و البلادِ "
يأتونَ من وسطِ الخرافةِ كي يعيشوا
وهمَ آثارِ الرعاةِ على التلالِ
و يغيروا اسم الشقائقِ و النباتِ
***
و هناكَ حيثُ مضيتِ نحو عوالمِ الأمواتِ
حيثُ يكونُ هذا العالمُ المسكونٌ بالصمتِ المهيبِ
و قد يكونُ محطةً للإنعتاقِ
أو البريدِ إلى السماءِ
فلتسأليهِ نيابةً عن كلِّ مَنْ عاشوا سُداً :
كيفَ السبيلُ إلى المعاني
و هي تلمعُ في الوجودِ كما السرابِ
ولتسأليهِ نيابةً عن كلِّ من ضاقتْ بِهُمُ سبلُ الحياةِ :
لِما الشقاءُ لِما الحروبُ لِما الوعودُ
لِما البدايةُ و النهايةُ و الدموعُ
لِما النعيمُ لِما السعيرُ
لِما الحياةُ لِما المماتُ
***
و علِّميني أن أُهجِّأ أبجديةَ ذلكَ الموتِ الغريبِ
أنا المرابطُ في الدوائرِ
في حمى أبديتي السوداءَ
حتى أقتفي أثرَ الدروبِ المفضياتِ إلى الضياءِ
فإنَّ لي أملاً بأن أمشي طويلاً في السهولِ و في الجبالِ
و أشمُّ رائحةَ النساءِ
و أعشقُ الأطفالَ و الأزهارَ
و أقولُ : إنَّ السِّجنَ منفى
للذينَ يفتشونَ عنِ المعاني في الضبابِ
و يبحثونَ عنِ الحقيقةِ في السرابِ
و السِّجنُ مِثلُ الموتِ يلمعُ في ثنايا نيلهِ
أملُ الإيابِ و الإنبعاثِ
ننسَلُ من عدمِ السجونِ أو القبورِ
إلى النجاةِ و شهقةِ الحريةِ الأولى
لنُكمِلَ ما تبقى من خلودٍ و من حياةٍ
و أقولُ إنَّ الموتَ درسُ الكائناتِ
لكي ترتّبَ وقتها
و لكي تُسائلَ نفسها
إن كانَ من مغزى و من حلمٍ
يراودُ ليلها في الإنعتاقِ
و الموتِ مثوانا الأخيرَ
و حقُنا الأزلي أن نحيا قليلاً
نحتفي في هذهِ الساعاتِ من أعمارِنا
نأتي إلى الدنيا خِفافاً
نزرعُ الأشجارَ و الأبناءَ
نزرعُ ظِلَنا و نَشيدَنا
نلهوا طويلاً كي نجرِّبَ حَظَّنا
في رحلةِ العدمِ الطويلةِ
كي نُخلِّدَ صوتَنا
و أقولُ : إنَّ الحبَّ تُحفَتُنا الفريدةُ في الوجودِ
لكي نُحِسَّ بأننا بشرٌ
وُلِدنا كي نُحِبَّ و كي نعيشَ
و كي نموتَ
و الحبُّ أجملُ دائماً في حضرةِ الجداتِ
و هُنَّ أجملَ ما يجودُ بهِ الجمالُ من الصفاتِ
***
و الشوقُ يقتلني إليكِ فعانقي حلمي
لأحلم أنني أملٌ جميلٌ بالرجوعِ
و عاتبيني مثلما دأبَتْ عليهِ
وداعةُ الجداتِ للأحفادِ :
و لِما التأخُّرُ يا فتى و متى تعودُ
أكُلَّ هذا الوقتِ تمضي غائباً
لِما لم تَعُدْ من بعدِ أن أرخى الظلامُ خيوطهُ
قد حانَ وقتُ النومِ يا ولدي الحبيبَ
و لا تغِبْ عنا طويلاً
عُدْ إلينا قبلَ أن تتكاثرَ الغيلانُ في الطرقاتِ
واصلي هذا العتابَ و قر عيني
و املئيني بالحنينِ وخبّئي قمراً
فيَنبُتُ من ترابكِ
خبّئي هذا الحنينَ
لأشتهي يوماً إيابي للترابِ
و أقولُ يا حبي المضرَّجَ بالوفاءِ
سنلتقي يوماً كذراتٍ تعانقُ بعضها بعضاً على هذهِ الفلاةِ
***
و أسأل يا حبيبتي الجليلةَ
كيف يبدو الموتُ في تلك الجهاتِ
و هناكَ حيثُ العالمُ المخفي
و هناكَ حيثُ اللا هناك
و كيف يمكنكِ المجيء
و لو بحلمي كي تقُصي عليَّ
من شغفِ الحكاياتِ المثيرةِ و حكايةِ الموتِ
التي استعصَتْ على هذا الوجودِ
و اهمسي إن كان هذا الموتُ غولاً أو هواءً
أو كان من جنسِ الذكورِ أو الإناثِ
قُصِّي عليَّ حكايةَ الموتِ الغريبةِ
و لتكن تلكَ الحكايةُ
مِثلَ سابقِ غيرها تحوي الطرافةَ و الفضولَ
و لتكن تلكَ الأخيرةُ و ريثما يحتلَّني هذا النعاسُ
على ضفافِ الموتِ
سأظلُّ أذكرُ وهجَ طلَّتكِ البهيةِ
نيسانُ عادَ و لم تعودي
فارجعي كشقائقِ النعمانِ في نيسانِ
خضراءَ مِثلَ ربيعهِ و أراكِ
في الغزلانِ في الزيتونِ في حقلِ السنابلِ
و أراكِ فيما أنجَبَتْ هذه الطبيعةُ من هباتٍ
***
أبديّانِ أنا و أنتِ
مضرجينِ بصمتنا بين الهُنا واللاهُناك
و أنا هنا في عالمِ الجدرانِ و الأغلالِ حيثُ أدورُ
مِثلَ زماني العاتي هنا و أنتِ هناك
حيثُ عوالمُ النسيانِ و الصمتِ الجليلِ
و هناكَ حيثُ اللا هُناكَ
بلا دخولٍ و لا خروجٍ و لا ذهابٍ و لا إيابٍ
و لا شروقٍ و لا غروبٍ و لا أمامٍ و لا وراء
و هناكَ حيثُ هناكَ نمضي كلنا
بختامِ رحلتنا الشقيةِ
فوحدهُ الموتُ الدليلُ على الحياةِ
و وحدهُ من يملكُ المعنى المطلَّ على العدمِ
و وحدهُ من يضبطُ الإيقاعَ كي يلقي علينا
لحنهُ البالي طويلاً
وحده من لا يُخبئ وجهَهُ
لا يستكينَ و لا يلينَ
و لا يكلَّ و لا يملَّ
و لا يعيشَ و لا يموتَ
وحده من لا يصلي للجهاتِ
و قد غدا جهةَ الجهاتِ
و وحدنا في الكوكبِ النائي بعيداً وحدنا
نحيا قليلاً كي تراودنا الخرافةُ و التجلي
نحيا لنُسألَ إن ولدنا ذاتَ يومٍ في الوجودِ نحيا
لكي نجربَ أن نعيشَ بهذهِ الدنيا المليئةِ بالسدودِ
و كي نُسائلَ أنفسنا إن كان هذا الموتَ
يشبهُ برزخاً للإنتظارِ و سُلَّماً نحو الطريقِ
إلى الخلودِ
و هناكَ حيثُ اللا هناكَ
لا شيء غير فراغنا
لا شيء غير سرابنا
لا شيء غير الحلمِ في سبلِ النجاةِ
***
و يا عريفة ظلّي هنالكَ
فليسَ أجملَ من نهايةِ
قصةٍ مجهولةٍ في عالمِ الموتى الذين نَجُلُّهم
و أنا هنا أبديتي فيها مجازٌ للحياةِ
سأواصلُ الحلمَ الجميلَ بالإنبعاثِ
سأزورُ قبركِ ذاتَ يومٍ
و أذرفُ الدمعَ الغزيرَ على ثراكِ
أتلو عليكِ بما تيسَّرَ
من فواتحٍ أو قصائدٍ
و أصم حرفَ النونِ في القرآنِ
إكليلاً من الآياتِ و الأزهارِ
فوق ترابِ قبركِ
و ريثما آتي إليكِ
سأظلُّ أحلمُ أن لي حرفاً
سيفتحُ قِفلَ أغلالي الثقيلةَ
و لن أكفَّ عن المجيء إلى بلادِ الحلمِ
و الذكرى البعيدةِ
فلَكِ الخلودُ لكِ السكينةُ و النعيمُ لكِ البقاءُ
و لي الطريقُ إلى الفصولِ و ما تبقى من حياةٍ
و ما تخبئه لنا من كلِّ أصنافِ المتاعبِ و الشقاءِ
أو موائدٍ باذخاتٍ في السرابِ
لا تصبِّي الشاي يا قمري البعيد
لا تنتظريني فأنا سأحيا كي أحبَّكِ كل يومٍ
أبقى أزاولُ مهنةَ المتفائلينَ
بأنَّ هذا الليلَ يخبو تحت أنفاسِ الصباحِ
و أنَّ في هذي البلادِ و على ثراها
نستحقُ بأن نعيشَ و أن تُرافقنا الحياةُ