ذاكره ناقصه
________
أذكر تفاصيلهم بدقة متناهية .كانوا أكثر من خمسة أولاد ..نتشابه في كثير من الأشياء وتوحدنا أشياء أخرى .نلتقي كل يوم تقريبا نتبادل أطراف الحديث الذي يتكرر كل مره .لكننا لا نمل منه أبدا .ببساطه نحن نعيش في بيئة مغلقة تماما ..
كان والدي يعمل في .البورط. مما تضطره الظروف أن يغيب عنا بضع شهور أحيانا .نظل نرقب قدومه إلينا بحنين لا يطاق .وحين يعود كان يحمل إلينا بالمزيد .الذي يجعلني أتفوق دائما على .ربعي. بالأحداث الغامضة وكانت مخيلتي تسبح بعيدا مما يسمح لي بإضافة بعض التفاصيل من عندياة. ذات مره عاد والدي بعد الغروب .ما إن ناخت الشمس وراء تل دوغه حتى رأيناه ونحن نسلك المنحدر نحو المضارب .سعيد أول من رآه قال بصوت جهوري. والدك يا خالد ها هو يقترب منا أنظر. وأشار بإبهامه إلى الأفق الذي بدأ يتلاشى رويدا رويدا .لتغرب الشمس وتحتمي بمكمنها حيث لا ندري .انتظرناه طويلا حتى إجتاز الوادي الغويط . ركضنا نحوه بتفاني .لازال كما هو ملامحه مالت إلي البياض وعيناه براقتان ومشعتان على الدوام .كان يرتدي بدلة افرنجيه وقميص سماوي وكان يكره ربطة العنق يقول أنها تخنق الأنفاس ..كان يحمل حقيبة كبيره يجرها على الارض بمشقة عاليه .وحين سحبتها من يده لم أستطيع أن أمشي بها لخطوة واحده مما دفع بالأولاد لمساعدة .
بعد العشاء جلسنا إلى جواره في إنتظار الأخبار المدهشه. كنت أنوي أن أطرد الاولاد لأنفرد بسماع الأخبار وحدي .لكنني لم أفلح إذ أن أمي أعد مجلسا للجميع ..
باحة البيت واسعه وجميله وكان والدي يرتاح كثيرا وهو يمد أطرافه بحريه .وقد بدأ حديثه معنا قائلا. .لا نستطيع أن نقعد هكذا كما نحن الأن. .كنا نجلس على مقاعد من الخشب تحدث آثارها على عظامنا وآلام كثيره ..سهرنا معه حتى منتصف الليل .حدثنا عن البحر وعن أسماك القرش والثعابين ألتي يلقي بها الموج .حدثنا عن شوارع المدينه المكتظة بالغرباء وعن الأولاد والنساء .والبراح الذي يلجأ إليه الناس هربا من الزحام .حدثنا عن أشياء كثيره .كنت أدون كل شئ عبر ذاكرتي الصغيره .وفي اليوم الآخر يتجمع حولي الأولاد لأضيف ما سمحت به ذاكرتي وأخيلة التي بدأت تستوعب كل ماهو غريب .قلت لهم حدثني أبي عن الدور الشاهقة التي أصبحت محطات للموت وحدثني عن النساء السافرات والبنات الساحرات بشئ من التلميح وقال أن الأولاد لايشبهون أي واحد منا ..فقال عبدالسلام ..بل يشبهوننا أنا قد رأيت أحدهم عند بيت خالتي التى تقيم في ترهونة .الفرق بيننا إنهم لا يسرحون بالماشيه ولا يعرفون طعم التعب والعرق ليكونوا جديرين بالحياه لكنهم مثلنا تماما .أنا لم أجد أي فرق ..
حملتنا الأيام والشهور والأعوام وصرنا كبارا مثل الكبار وسمحت لنا الظروف للوقوف على ذاكرة والدي الذي أمضى نصف عمره في المدينه وحين أتاه الموت وجده في القريه .كان حساسا جدا لم يقل لنا عن الأشياء التي قد تسمح بضياعنا ذات يوم .ذكر لنا الجانب المضيء فقط كي لا ننفر منها ونحن مقبلين على الحياه .جل رفاقي ذهبت بهم الدنيا إلى أبعد ما يكون منهم من غادر الحياه باكرا ومنهم من ترك الديار وقليل منهم من لم يغادر القريه .أما أنا عشت حياتي كلها مدفوعا بذاكرة التي صقلها والدي دون أن يدري لأصبح كاتبا أدافع عنه وأتحرى خطاه بعد أن فارق الحياه .
________________
على غالب الترهوني
بقلمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق